jo24_banner
jo24_banner

(200) يوم عاديّ على طوفان الأقصى!

كمال ميرزا
جو 24 :


لو كان فيلماً سينمائياً لما استمر في دور العرض لـ (200) يوم!
لو كان مسلسلاً دراميّاً لملّ الممثلون والمخرج وفريق العمل بعد (200) يوم!
لو كان رواية خيالية لما واصل أعتى القرّاء القراءة لـ (200) يوم!

جميعنا نشترك في قناعة ضمنية أنّ الأساطير والملاحم والمعجزات هي أمور تنتمي إلى عوالم أخرى وأزمان أخرى، أزمان قديمة وحتى سحيقة، ولا نتصوّر أن مثل هذه الخوارق يمكن أن تحدّث في الزمن "العادي" الذي نعيشه، وعلى يد بشر "عاديين" من لحم ودمّ، وكجزء روتيني "اعتيادي" من تفاصيل حياتنا اليومية "الاعتيادية"!

هذه الطبيعة البشرية الميّالة للإفراط أو التفريط، وهذا الحِس الجمعي الميّال للتهويل، وهذا المخيال المَرَضي الذي شوهته "هوليوود" بمصنعيّتها ونمطيّتها.. هذا ما يمنعنا من إدراك أنّ عظمة "طوفان الأقصى" تكمن في "عاديّته"، أو بالأحرى في قدرة أهالي غزّة الخارقة على تحويله إلى حدث عاديّ!

قنص الدبابات كإجراء عاديّ يمكن أن يقوم به "قزدرةً" شاب ينتعل "شحّاطة"!

إمطار العدو بوابل من قذائف الهاون كإجراء عاديّ يمكن أن يقوم به شباب حفاة مباشرةً بعد انتهائهم من إعداد "قلّاية بندورة" على الحطب!

تفخيخ عين نفق أو تجهيز كمين هندسي مركّب كإجراء عاديّ يمكن أن يقوم به شاب يعمل في الظروف الاعتيادية "كهربجيّاً" أو "فنيَّ تكييف"!

صناعة بنادق قنص عالية الدقة والكفاءة كإجراء عاديّ يمكن أن يقوم به شاب يعمل في الظروف الاعتيادية كـ "حدّاد بلديّ" أو "سنكريّ" يُصلح المدافئ و"بوابير" الكاز!

بناء مدينة كاملة من الأنفاق تحت الأرض كـ "ورشة" عادية يقوم على تنفيذها نفس "الطوبرجية" وعمّال البناء الذين يمرمرون قلبك في الظروف الاعتيادية من أجل بناء غرفتين ومنافعهما فوق السطح، أو استكمال سور تافه سبق وأن شرعوا ببنائه حول حوش الدار!

ولا يقتصر الأمر على "الأعمال الحربية"، فحتى أبسط تفاصيل العيش أصبحت على يدّ أهالي غزّة موضوعاً للبطولة والعظمة والفداء:

قضاء الحاجة، قضاء الوطر، الاغتسال من الجنابة، حلاقة الذقن، نتف العانة، نزع الشعر، العادة الشهرية، تبوّل الأطفال اللاإرادي، شخير الجدّ المزعج، قولون الأب العصبيّ، النفخة والغازات، تهيّج البواسير، الانتصاب الصباحي، رائحة الفم، قشرة الرأس، التنخّع، التمخيط.. الخ، الخ، الخ.

تخيّل جميع هذه التفاصيل الصغيرة، التفاصيل التافهة، التفاصيل التي تشكّل لك منظومة عاداتك وطقوسك اليومية بهوسها وتعلّقها واستهلاكيّتها، وتنزعج وتسخط وتستشيط إذا ما تعرّضتْ لأدنى مقاطعة أو إرباك أو انتهاك.. ثم تخيّل أنّ شعباً كاملاً، وعلى مدار (200) يوم متواصلة، مضطر لأن يجترح معجزات وخوارق كي يستطيع التعامل مع كل تفصيلة من هذه التفاصيل وسط الخيام والانقاض والحصار والتجويع والتعطيش وتكدّس الأجساد وانعدام الخصوصية.. لكي ينسج لنا أسطورة الصمود والفداء هذه التي نتابعها بزهد عبر شاشات تلفزيوناتنا وهواتفنا، وإذا شعرنا بملل نقلب القناة، أو نقلّب حساباتنا بحثا عن إدراجات تافهة تسلينا وتسرّي عنّا!

الشيء الوحيد الذي ينافس قدرة أهالي غزّة على ممارسة البطولة كإجراء عاديّ، هو قدرة أفراد وشعوب وأنظمة بأكملها على ممارسة النذالة والخساسة و"الخَنْزَرة" كإجراء عاديّ أيضاً:

(200) يوم من الخذلان..
(200) يوم من التنصّل..
(200) يوم من التجاهل واللامبالاة..
(200) يوم من الحقد والحنق..
(200) يوم من التواطؤ..
(200) يوم من الخيانة والعمالة..
(200) يوم من الدياثة السياسية والعهر الوظيفي..
(200) يوم من التنسيق الأمني والتعاون الاستخباريّ..
(200) يوم من اختلاق أوقح الأعذار وأوهى الحجج لتبرير عدم استعدادنا للتفريط بأتفه تفاهات العيش في سبيل غزّة والأقصى وفلسطين: كالتخلّي عن عبوة مياه غازية، أو التنازل عن سندويشة همبرغر، أو مقاطعة ماركة حقيرة تدعم الدمار والقتل والاغتصاب والتعذيب والإبادة والتهجير!

(200) يوم على "طوفان الأقصى"، وكان يكفي أهل غزة يوم واحد فقط لكي يستحق أجرهم كاملاً عند الله، ولكن بقية الأيام هي للآخرين، لشعوب السلام وأنظمة التطبيع وحضارة الأنوار والحرية وحقوق الإنسان كي يهووا بكلّ يوم يمرّ سبعين خريفاً في نار جهنم!

(200) يوم على "طوفان الأقصى"، وكلّ المطلوب منك أن تصبح نُصرة غزّة وفلسطين والقضية، بقلبك أو لسانك أو يدك، من موقعك، وفي حدود قدرتك واستطاعتك.. جزءاً عاديّاً من تفاصيل حياتك اليومية؛ فهل هذا مطلب غير عاديّ؟!

(200) يوم على "طوفان الأقصى"، وكلّ المطلوب من البعض أن يغلقوا أفواههم، فقط أن يغلقوا أفواههم كما يغلقونها إزاء كلّ لص وفاسد وظالم ومستبدّ وخائن وعميل.. فهل هذا أيضاً مطلب غير عاديّ؟!

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news